تشهد البورصات العالمية تقلبات حادة منذ مطلع أبريل 2025، متأثرة بجملة من العوامل الاقتصادية والجيوسياسية، أبرزها تصاعد التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وتغير السياسات النقدية في الاقتصادات الكبرى.
فقد سجلت مؤشرات الأسواق العالمية تراجعات ملحوظة، حيث انخفض مؤشر "داو جونز" بنسبة 2.3%، بينما تراجع مؤشر "نيكاي" الياباني بنحو 1.8%، وسط حالة من القلق لدى المستثمرين بشأن مستقبل النمو العالمي.
وفي هذا السياق، قال ريتشارد غارنر كبير المحللين في بنك "باركليز" إن الأسواق دخلت في موجة تصحيح طبيعية نتيجة "الضغط المزدوج من ارتفاع أسعار الفائدة وتباطؤ نمو الأرباح في كبرى الشركات الأمريكية"، مضيفاً أن "رد فعل الأسواق كان عنيفاً لكنه متوقع في ظل هذه الظروف".
التوترات بين واشنطن وبكين تصدرت المشهد، لا سيما بعد إعلان الصين عن فرض رسوم جمركية جديدة على واردات أمريكية بقيمة 50 مليار دولار، ردًا على قرارات مماثلة من إدارة البيت الأبيض.
واعتبر ذلك بمثابة شرارة أعادت شبح "حرب تجارية" إلى طاولة الاقتصاد العالمي، وفي هذا الصدد، صرّح **رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، جيروم باول، بأن "تصعيد الحمائية التجارية قد يؤدي إلى ضعف ثقة الأسواق وتباطؤ الاستثمار العالمي"، مشيرًا إلى أن البنك يراقب التطورات عن كثب وسيبقى مرنًا في سياسته النقدية.
وعلى الجانب الأوروبي، تراجعت البورصات تأثرًا بعدم اليقين بشأن النمو في منطقة اليورو، إلى جانب استمرار اضطرابات أسعار الطاقة وقد أشار تقرير حديث صادِر عن المفوضية الأوروبية إلى أن ارتفاع تكاليف الطاقة وغياب الاستقرار السياسي في بعض دول الاتحاد أثرا سلباً على شهية المستثمرين للمخاطرة.
وفي تصريح خاص لوكالة "رويترز"، أكد ماريو دراغي، المستشار الاقتصادي للاتحاد الأوروبي، أن "الأسواق تمر بمرحلة اختبار حقيقي للمرونة، وعلينا أن نعيد النظر في أدوات التحفيز لدعم الانتعاش".
أما في الأسواق الناشئة، فقد انعكست هذه الضغوط بشكل أكثر حدة، حيث شهدت تدفقات رأس المال الخارجة من هذه الأسواق أعلى مستوياتها منذ بداية 2023، وسط تخوف من انخفاض قيمة العملات المحلية أمام الدولار القوي، وارتفاع تكاليف خدمة الديون الخارجية.
وعلّق راجيش بهاتيا، كبير الاقتصاديين في البنك الآسيوي للتنمية، قائلاً إن "التحدي الحقيقي أمام الاقتصادات الناشئة ليس فقط في مواكبة الأحداث العالمية، بل في إيجاد توازن داخلي يحمي استقرارها المالي".
ويُجمع المحللون على أن المرحلة الحالية تتطلب يقظة من صانعي القرار المالي، وشفافية في السياسات النقدية والضريبية، لأن أي خطوة غير محسوبة قد تعمّق اضطراب الأسواق.
ومع استمرار حالة عدم اليقين، تبقى شهية المخاطرة محدودة، فيما يتجه المستثمرون نحو الملاذات الآمنة مثل الذهب، الذي سجل ارتفاعًا بنسبة 1.5% خلال الأسبوع، وسط توقعات بمزيد من الصعود في حال تصاعد التوترات الجيوسياسية.
وتشير مجمل المؤشرات إلى أن البورصات العالمية مقبلة على فترة من التقلبات المتواصلة، ما لم تُتخذ خطوات جدية لضبط السياسات المالية ومواجهة التضخم دون خنق النمو.
في ظل هذا المشهد المعقد، لم يعد كافياً الاعتماد على أدوات السياسة النقدية التقليدية، حيث بدأت بعض البنوك المركزية في اعتماد مقاربات أكثر مرونة، مثل تدخلات مباشرة في السوق، وتقديم تسهيلات تمويلية مخصصة لقطاعات حيوية ورغم هذه الإجراءات، فإن حجم الصدمات العالمية يجعل من الصعب على الاقتصادات الكبرى عزل نفسها عن التداعيات.
وفي مقابلة مع شبكة بلومبيرغ، صرّحت جانيت لويس، كبيرة الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي، أن “الأسواق لا تواجه فقط اضطرابات مؤقتة، بل هناك تحوّل هيكلي في طريقة عمل النظام المالي العالمي، خاصة بعد صعود أدوات الذكاء الاصطناعي في التداول، وتغيّر أنماط استهلاك الطاقة، وزيادة حساسية المستثمرين تجاه المخاطر الجيوسياسية.” وأضافت: "نحن في حاجة إلى إعادة تعريف العلاقة بين الاستقرار المالي والسياسات التجارية."
وعلى مستوى الشركات، بدأت كبرى المؤسسات الاستثمارية بإعادة هيكلة محافظها، متجهة إلى مراكز مالية أكثر استقراراً مثل سوق السندات الألمانية، والفرنك السويسري، وبعض الأصول الرقمية منخفضة المخاطر.
وهذا التحول يؤكد ابتعاد المستثمرين عن القطاعات عالية التقلب، ويفسّر جزءاً من التراجعات المتتالية في أسهم شركات التكنولوجيا، والطاقة، وحتى البنوك العالمية.
من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل تأثير الأخبار السياسية على حركة الأسواق، فقد أدت الانتخابات المبكرة في بعض الدول الأوروبية، والخلافات المتصاعدة داخل أوبك بشأن إنتاج النفط، إلى زيادة التذبذب في مؤشرات الطاقة والأسهم ذات الصلة ويبدو أن المستثمرين أصبحوا أكثر حساسية تجاه الأحداث المفاجئة، ما يجعل البورصات تتفاعل بشكل أسرع، وأحياناً مبالغ فيه، مع كل تصريح أو قرار حكومي.