قمنا في موقعنا "إينار نيوز" بتلخيص مقال "زيد أسليم" من موقع "الجزيرة نت"، والذي يستعرض أبعاد الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها تركيا عقب قرار الحكومة بعزل رؤساء بلديات عدة مدن، وهي خطوة أثارت جدلاً واسعاً داخل الأوساط السياسية التركية.
مبادرة بهتشلي للمصالحة؟ |
فبعد أن أقدمت الحكومة التركية على عزل رؤساء بلديات ماردين وباتمان وهالفتي في ولاية شانلي أورفا، تحت ذريعة "التورط في أنشطة إرهابية"، بدأت تتزايد التكهنات حول تأثير هذه الخطوة على مبادرة المصالحة التي أطلقها زعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشلي، الذي يدعو فيها إلى فتح باب الحوار والتفاهم مع الأكراد.
بداية الاحتجاجات وامتدادها
اندلعت الاحتجاجات عقب إعلان الحكومة قرار العزل، وشملت العديد من المدن التركية. وتركزت الاحتجاجات خصوصاً في ديار بكر وفان، حيث شهدت مواجهات بين المتظاهرين والشرطة، أسفرت عن إصابة عدد من المتظاهرين واعتقال أكثر من 20 شخصاً. كما امتدت المظاهرات إلى إسطنبول، حيث تجمع مئات المحتجين أمام مبنى بلدية أسنيورت للتنديد باعتقال رئيس البلدية أحمد أوزر، المنتمي إلى حزب الشعب الجمهوري المعارض، بتهمة ارتباطه بحزب العمال الكردستاني. واشتدت المواجهات بين الشرطة وأنصار المعارضة في محاولة لمنعهم من دخول المباني الحكومية.
وفي سياق احتجاجي آخر، عقد أعضاء حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، اجتماعاً رمزياً أمام مبنى بلدية أسنيورت. ويعتبر هذا الاجتماع تحدياً رمزياً من قبل أعضاء الحزب للحكومة، ورفضاً صريحاً للقرارات التي يعتبرونها تدخلاً غير مبرر في إرادة الناخبين.
المعارضة تتحدث عن إرهاق سياسي وتدخل في إرادة الشعب
أثارت قرارات العزل موجة واسعة من الانتقادات، خصوصاً من الشخصيات المعارضة مثل عمدة ماردين المعزول أحمد تورك، الذي وصف القرار بأنه استهداف متكرر لشخصه وأكد أنه عزل للمرة الثالثة منذ عام 2016. وصرح تورك بلهجة ساخرة أنه ربما دخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية بسبب عدد مرات العزل المتكرر. أما حزب المساواة الشعبية والديمقراطية، فقد وصف القرار بـ"الانقلاب الوصي"، منتقداً ما اعتبره إرهاقاً سياسياً للحكومة التي تسعى - حسب تعبيرهم - إلى تقويض المعارضة بشكل مستمر.
ووفقاً لأوزغور أوزال، رئيس حزب الشعب الجمهوري، فإن المعارضة مستعدة لمواصلة النضال ضد سياسات الحكومة، التي وصفها بأنها "وحشية" في تعاملها مع إرادة الناخبين واستخدامها للسلطة بشكل مفرط ضد الخصوم السياسيين. وفي الوقت نفسه، يعكس موقف المعارضة، وخاصة حزب الشعب الجمهوري، تحذيراً قوياً للحكومة من أن هذه القرارات قد تساهم في تأجيج الغضب الشعبي وتجعل مساعي المصالحة أكثر صعوبة.
رؤية المؤيدين للقرارات من داخل المعارضة
تباينت آراء المعارضة التركية بشأن قرارات العزل، حيث لم تتفق جميع الأحزاب المعارضة على رفض هذه الخطوات بشكل قاطع. وذكر الباحث السياسي علي أسمر أن بعض الأحزاب المعارضة، مثل حزب "الظفر"، لم تعارض عزل المسؤولين الذين تتهمهم الحكومة بالتورط في أعمال تتصل بحزب العمال الكردستاني. ويرى أسمر أن هذا الاختلاف داخل المعارضة يعكس تحدياً إضافياً في توحيد الصفوف أمام الحكومة، وأن القرارات جاءت بعد مراقبة طويلة وتحقيقات حول أنشطة هؤلاء المسؤولين.
خطوة وقائية أم سياسية
يوضح أسمر أن قرارات العزل قد تكون خطوة تكتيكية من الحكومة، حيث تأتي في وقت يتسع فيه الصراع الإقليمي، ويبدو أن الحكومة تسعى لمنع تأثير حزب العمال الكردستاني على الداخل التركي من خلال فرض الرقابة على الشخصيات التي يعتقد أن لها صلات مع الحزب. ويشير إلى أن السلطات ربما انتظرت طويلاً قبل اتخاذ قرارات العزل بهدف جمع الأدلة، وأن هذه الخطوة تستهدف أيضاً تقليص نفوذ بعض الأحزاب الكردية التي تتواصل بشكل مباشر مع جهات خارجية في سوريا والعراق.
خلفية قانونية لقرارات العزل
ذكرت وزارة الداخلية التركية أن قرارات العزل جاءت استناداً إلى أحكام قضائية قائمة أو قضايا تتعلق بالانتماء لمنظمات محظورة. فعلى سبيل المثال، صدرت بحق عمدة ماردين، أحمد تورك، أحكام بالسجن تصل إلى 10 سنوات بسبب تهم تتعلق بالمشاركة في أحداث كوباني، فيما صدرت أحكام بالسجن على رئيسة بلدية باتمان ورئيس بلدية هالفتي بتهمة الانتماء لمنظمات محظورة. وتوضح الوزارة أن التحقيقات جارية، وأنها ستواصل اتخاذ التدابير القانونية ضد كل من تثبت علاقته بمنظمات محظورة.
مبادرة بهتشلي للمصالحة ومسألة "الوقت الضيق"
قبل نحو أسبوعين، أعلن زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهتشلي، عن مبادرة مثيرة للجدل تتمحور حول المصالحة مع الأكراد، ودعا إلى إطلاق سراح زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، ومنحه فرصة لإلقاء خطاب في البرلمان يعلن فيه حل المنظمة. واعتبر بهتشلي أن هذه المبادرة ستكون خطوة باتجاه مصالحة تاريخية تنهي الصراع الذي استمر لعقود.
ويشير علي أسمر إلى أن أنقرة تستشعر ضيق الوقت وتعتبر أن أي تأخير في حل "مشكلة الإرهاب" قد يجعل الأوضاع تتفاقم، خاصة مع تعقيد الأوضاع في سوريا. كما يعتقد أن الحكومة تتبنى عدة مسارات لتحقيق "تركيا خالية من الإرهاب"، منها المسار السياسي الذي يقوده بهتشلي، والمسار العسكري الذي يتولاه الجيش التركي، إلى جانب مسار العزل وتفكيك النفوذ داخل البلديات.
المخاوف من تصاعد التوتر
على الجانب الآخر، يرى الباحث السياسي مراد تورال أن الحكومة تسلك نهجاً غير موفق في الضغط على الأكراد وحزب "المساواة الشعبية والديمقراطية"، مؤكداً أن هذه السياسات لن تؤدي إلى حل الصراع بقدر ما ستزيد من الاحتقان الشعبي. ويضيف تورال أن سياسة العزل قد تزيد من التعاطف مع الأحزاب المعارضة وتمنحها مساحة أكبر للمطالبة بمزيد من الحقوق والمشاركة في صناعة القرار. ويؤكد تورال أن اتباع نهج أكثر انفتاحاً وتعاوناً من قبل الحكومة قد يسهم في تحقيق استقرار طويل الأمد، ويقلل من التوترات التي تعصف بالشارع التركي بسبب التحديات الاقتصادية والسياسية.
يتضح أن قرارات العزل الأخيرة في تركيا تحمل في طياتها تحديات كبيرة لمسار المصالحة الذي يسعى إليه بهتشلي، حيث يقف العديد من الأطراف المعارضة في مواجهة هذه القرارات ويرون فيها تهديداً للديمقراطية وإرادة الشعب. كما تتداخل العوامل الإقليمية والمحلية في هذا الملف الحساس، مما يجعل من الصعب التوصل إلى توافق سياسي حول كيفية التعامل مع القضية الكردية في تركيا.